تقريرلـ«يوسف علاونة» حول خلفيات الصراع بين خامنئي ورافسنجاني في إيران

تقارير

 

31 مارس، 2016

يوسف علاونة:

‏استغل علي خامنئي مناسبة للاحتفاء بمن تسميهم إيران (منشدي مدائح ومراثي أهل البيت) دون أن يذكر القطب الإيراني الآخر (رافسنجاني) بالاسم لينتقد الذين “يعتبرون أن المستقبل هو للمحادثات وليس للصواريخ”، منوها إلى إن عصرنا اليوم هو “عصر الصواريخ والمحادثات أيضا وإلا لضاعت حقوق الشعب”!.. مضيفا بأن “عصرنا اليوم معقد وعليه يجب استخدام جميع الطرق والأساليب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية لحماية مكانة ايران وعزتهاعلى الصعيد العالمي، ومن يتحدث عن المستقبل باعتباره عهد التفاوض وليس عهد الصواريخ، فإن ذلك يشكل خيانة إن كانت عن دراية”!..

‏وعلى الفور خرج التلاسن عن السيطرة لينحاز عضو لجنة الامن القومي والسياسة الخارجية في مجلس الشوري محمد حسن آصفري إلى المرشد الأعلى معتبرا “أن منظومة الصواريخ هي من دفعت الغرب لدخول المحادثات التي دون قوة دفاعية لاتجدي نفعا بل تتسبب في تنازلات أكبر امام الغرب”، مستهجنا “سخافة ما يروج له بعض السياسيين من ان زمن الصواريخ قد انتهى”.

‏ويمثل علي أكبر هاشمي رافسنجاني وعلي خامنئي قطبا السلطة في ظل قائدهما “الخميني” أول (إمام) لإيران بعد انقلابها الثيوقراطي على الشاه محمد رضا بهلوي.

‏وفي رحلة طويلة من التشارك والمداحرة بين الرجلين ظل خيارهما كل الوقت هو تقاسم السلطة كي تبقى (الثورة) ولا تنهار.

‏ورافسنجاني (الأكبر سنا من خامنئي) مولود عام 1934 في جنوب شرق إيران لأسرة من المزارعين، ودرس علم الأديان في مدينة قم مع الخميني وصار من رجاله وسجن عدة مرات زمن الشاه ورأس البرلمان خلال سنوات 1980-1989، وعينه الخميني عام 1988 بمنصب القائم بأعمال قائد القوات المسلحة، وتولى الرئاسة ما بين من 3 آب من سنة 1989م إلى 2 آب 1997م، وخلال رئاسته سعى إلى تحويل إيران من دولة تسيطر على الاقتصاد إلى نظام السوق، كما عارض فرض القوانين الإسلامية المتشددة وشجع على تحسين فرص عمل النساء، وهو متزوج ولديه خمسة أطفال، وتعد ابنته الصغرة فائزة هاشمي ناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، وأغلق المتشددون صحيفة كانت تصدرها بعنوان (المرأة)، والغريب أنه أكبر سنا من خامنئي المولود عام 1939 بمدينة مشهد وكان والده جواد الخامنئي، من أبرز علماء مشهد، وجده هو حسين الخامنئي من علماء آذربيجان المقيمين في النجف، ووالدته ابنة سيد هاشم نجف آبادي، أحد علماء مشهد المعروفين، وأبناؤه: مصطفي، ومجتبي، ومسعود وميثم وله ابنتين هما بشرى، وهدى، واعتقل ست مرات زمن الشاه، وكان شريكا لرافسنجاني في تأسيس الحزب الجمهوري الإسلامي مع محمد بهشتي ومحمد جواد باهنر وموسوي أردبيلي في آذار من عام 1978م وكان أيضا مع رافسنجاني عضوا في مجلس شورى محدود أسسه الخميني وضم بالإضافة إليهما: مرتضى مطهري، ومحمد حسيني بهشتي، وعبد الكريم موسوي أردبيلي، ومحمد رضا مهدوي كني، وتولى قيادة الحرس الثوري، وإمامة جمعة طهران خلفا لمحمود طالقاني، وفي يونيو 1981 تعرض لمحاولة اغتيال بتفجير قنبلة وضعت في جهاز تسجيل أمامه فاصيب بجروح خطيرة وانكسرت ترقوته وساقه الأيمن ويده اليمنى.

‏وكان خامنئي الرئيس الثالث لإيران بعد أبو الحسن بني صدر (الأول) ثم محمد علي رجائي من سنة 1981م الي 1989م، ورأس عام 1987 مجمع تشخيص مصلحة النظام، ومع رحيل الخميني في يونيو 1989 قرر مجلس الخبراء انتخب خلفا للخميني من جانب مجلس الخبراء، وتدخل رافسنجاني بقوة للحيلولة دون نجاح مقترح بجعل القيادة ثلاثية بين ثلاثة أشخاص هم: الرئيس، ورئيس السلطة القضائية، ورئيس مجلس الخبراء، أي خامنئي، وأردبيلي، وعلي مشكيني، ليفوز خامنئي بالمنصب استرشادا برواية عن الخميني أقسم عليها رافسنجاني ومفادها أن الخميني قال: “خامنئي هو الأنسب للقيادة”، ليبعث له أحمد الخميني بعد ساعات من اختياره برقية قال فيها: “لقد ذكر الإمام الخميني اسمك مرارا بوصفك مجتهدا صالحا لقيادة الحكومة، وأنا وكل أفراد العائلة نتقدم بالشكر الجزيل للسادة العلماء أعضاء مجلس الخبراء المحترمين لانتخابهم المسدد لك، وإنني اعتبر أوامر الولي الفقيه واجبة التنفيذ”.

‏وكان المزيد من شركاء الخميني قتلوا مع بداية توليهم السلطة ومنهم محمد علي رجائي (مواليد 1933) وكان رئيسا للجمهورية مدة بسيطة بعد أبو الحسن بني صدر حتى اغتيل في أغسطس 1981 جنبا إلى جنب مع رئيس الوزراء محمد جواد باهنر، حيث أحضر مساعد موثوق حقيبة إلى قاعة المؤتمرات، ووضعها بين الرجلين ثم غادر لتنفجر وتقتل معهما عددا آخر وتم التعرف على المنفذ وهو مسعود الكشميري من حركة مجاهدي خلق، كما قتل بطلق ناري في مايو 1979 مرتضى مطهري في طهران بعد مغادرته أحد الاجتماعات.

وقد اختطف رجال دين خارجون من حوزات الظلام والانغلاق في قم ومشهد الخميني فور عودته من باريس عند سلم الطائرة فغابت لغته المتحضرة التي أبهرت العالم في باريس، وغابت معها وعوده بحكم ديمقراطي منفتح وحقوق للأقليات المكونة للكيان الإيراني لصالح عنصرية قومية فارسية، وغلو مذهبي شيعي متوحش، ثم انخرطت البلاد بعد ذلك في حرب دامية مع العراق وبشعار تصدير الثورة وتحرير النجف وكربلاء وتهديد بلدان الخليج العربي وتعزيز الصلات مع سورية.
‏ثم غاب المزيد من القادة الذين كان لهم دور ومكانة بجوار رافسنجاني وخامنئي وجرى عزل رئيس الجمهورية أبو الحسن بني صدر
‏وتم كذلك عزل نائب الخميني محمد علي منتظري ولاحقا فرضت عليه الإقامة الجبرية في قم وظل المنصب شاغرا فلم يتم تعيين نائب للمرشد المطلق الصلاحيات.
‏وكحال كل رؤساء إيران كان خامنئي ضعيفا في ظل الخميني، وكان رافسنجاني أقوى منه بكثير فهو الوحيد الذي كان بمقدوره أن يجادل الخميني بضرورة وقف الحرب غير المجدية مع العراق، وهو الوحيد الذي كان يتجرأ فيعرض مشاكل البلاد بصراحة مع (إمام) عنيد لا يجرؤ الآخرون على الخروج من سطوة فلسفته التي لا تكترث لغير مقولات منسوبة لعلي والأئمة الذين يؤمن بعصمتهم، ولهذا عندما مات الخميني كان هو أهم رجل في البلاد، فهو مثقف علمانيا ومطلع اقتصاديا، وكتابه الأول – وهذه ملاحظة مهمة – كان عن تجربة بناء اليابان، كما أنه رجل أعمال ومال وعقار ومزارع فستق ضخم، وله علاقات دولية.
‏وهكذا فرافسنجاني بجوار ملالي الجمود ممن ينتظرون خروج إمام غائب في سرداب منذ 1400 سنة لا يعلم أحد كيف يعيش وما هي معجزة بقائه، يعد داهية سلطة ويسمّوه (الثعلب)، وعبر رئاسته للبرلمان تمكن من التعاطي مع كافة القوى المحركة والفاعلة في النسيج الإيراني، كما أنه منح دورا قويا للرأسمال التجاري على حساب قوى (البازار) التقليدية التي دعمت احتجاجات جمهور الفقراء بقيادة رجال الدين ضد سلطة الشاه، وكان يجتهد لصالح الخصخصة والمشاريع الكبرى وشبكة الطرق والجسور والمطارات ولو أسفر ذلك عن قرارات غير شعبية.
‏لكن رافسنجاني رغم هذا كان يفتقد عنصرا مهما جدا بروبغندا الدولة الدينية التي تعتمد على تجييش العوام والغوغائية الشعبوية فهو رجل دين شيخ أي صاحب عمامة بيضاء وليس رجل دين هاشمي بعمامة سوداء من (آل محمد وعلي والحسين حسب معتقداتهم وتركيباتهم) وهذا يفقده أهلية ضرورية في سباق السلطة، بينما يحظى خامنئي بهذه الميزة بوصفه (سيدا موسويا حسينيا) مع عنصر آخر وهو أنه يعود إلى صفوف أقلية ثقيلة (الأذريون) الذين يمثلون 25% من السكان، بينما رافسنجاني من عروق فارسية ما يعني أن قيادته للبلاد ستؤكد هيمنة الفرس على الدولة، الأمر القائم فعلا كهيمنة العلويين على سورية، فيحتاج الأمر إلى غطاء من المتضامنين من الفئات والعرقيات الأخرى لتحسين صورة النظام ونفي عنصريته، فلا يكون لصالح الشركاء الأذريين أفضل من أن يكون المرشد الأعلى للثورة و (القائد) منهم، علما أن خامنئي بهروبه إلى التشدد المذهبي، يحاول إرضاء التطرف العنصري الفارسي المتدثر بالتمذهب المتطرف
‏لأغراض الهيمنة الفارسية على العراق وغيره، ضمن أساطير تتخيل قدرة على إحياء الامبراطورية الساسانية بفهم ديني يمنحها الشرعية.
‏لكن خامنئي كان ينقصه شيء مهم أيضا، فهو لم يبلغ مرتبة الفقيه حتى يصبح مرشدا أعلى، وهذه تتصل بمسائل نظام التقليد في التمذهب الشيعي فالمرجع حتى ينال مقام التقليد، ينبغي أن يكتب رسالته الشاملة في (مسائل ووسائل) الدين، والتي يجيب فيها على كل شيء ضمن ما يسمى (البحث الخارج) فيقلده الناس في حياته فقط ثم ينتقلون إلى سواه عند مماته، فخامنئي لم يكن أنجز هذا عند موت الخميني المباغت ليظل الأمر ندبة ومحل معايرة حتى اليوم بأن خامنئي صار وليا فقيها وقائدا ومرشدا أعلى ونائبا للإمام الغائب بينما هو غير مؤهل حوزويا أو علميا، لكن البلدوزر رافسنجاني تجاوز كل هذا وبايعه مستندا على هيمنته على البرلمان، ومفاصل الدولة، ليتم ذلك على حساب تيار (الراديكاليين) الذين صاروا اليوم (الإصلاحيين) لصالح (المعتدلين) الذين صاروا (المحافظين) بزعامة محور خامنئي – يزدي – جنتي (كان يتزعم الراديكاليين مهدوي كروبي ويتزعم المعتدلين مهدوي كني) ولتنشأ علاقة تحالف وتقاسم سلطة ‏بين خامنئي ورافسنجاني تم فيها إنهاء منصب رئيس الوزراء (كان يتولاه مير حسين موسوي) لصالح الرئيس رافسنجاني ما منح المنصب بعهده سطوة ونفوذا، بينما انهمك خامنئي الضعيف بالشأن الأمني والعسكري مستغلا صلاحيات المرشد ليبني امبراطورية نفوذه الخاصة ودون (تزاعج) مع رافسنجاني بل بانسجام معه وتعايش معه.وأنهى هذا التعايش دور الراديكاليين، وحقق وئاما في هرم السلطة حتى بدأ الفراق مع نهاية الفترة الثانية من رئاسة رافسنجاني حيث كان يتعين أن يحل رئيس جديد للبلاد فرشح رافسنجاني د. محمد خاتمي (وزير الثقافة بعهد الخميني) وكان محسوبا على الراديكاليين، ليرفض خامنئي الترشيح داعما رئيس البرلمان في حينه الشيخ ناطق نوري، ليضغط رافسنجاني على مجلس الخبراء الذي أعاد النظر تجنبا لأزمة عاصفة وقبل ترشيح خاتمي، ولينقسم النظام وراء الترشيحين فتنقض الجموع الشعبية الرافضة للنظام وتصوت لخاتمي وبنتيجة ساحقة كنت أحد شهودها خلال شهر مايو من عام 1997، عندما فاز الرجل محققا نسبة 70% من الأصوات، أي نحو 20 مليون ناخب، مما لم تشهده إيران من قبل، وهو ما تبخر بعد ذلك عندما أدركت قوى المجتمع المقموعة أن الانتخابات لا تتيح أي خيار خارج ما يريده مسبقا النظام.

في ذلك اليوم كنت شاهدا على مكالمة بين رافسنجاني والكاتب المعروف فهمي هويدي المقرب منه حيث أكد رافسنجاني استحالة التزوير، وأن الأمر قضي وفاز رجله رغما عن خامنئي، حيث لاحظنا في تلك التجربة كشهود عيان على المزيد من التفاصيل أن النظام كان يصر على فوز ناطق نوري ولو بالتزوير فيما كان الشعب يرى أن انتخاب خاتمي هو أول علامات نهاية النظام.
‏ولقد تم انتخاب خاتمي ليكون خامس رئيس للجمهورية، محققا نسبة 70% من الأصوات ممثلا بذلك أكثر من عشرين مليون ناخب، ولكن كان ذلك عبثا فخامنئي أصبح بجناحه المحافظ قويا مهيمنا على الدولة بالمطلق، فأصبح خاتمي ومن معه من مذنب الإصلاحيين داخل العباءة بلا أثر يذكر.
‏لكن هذا لم يؤثر على مكانة رافسنجاني الذي انتقل ليصبح رئيسا لمجلس تشخيص مصلحة النظام (كان مجلسا غير قائم رغم نصه الدستوري) ليرأس فيه رؤساء السلطات كلها مع ممثل للمرشد الأعلى ويتمتع بصلاحيات واسعة.
‏وهكذا استقرت الثنائية في هرم السلطة بين الرجلين حيث ينقسم المسؤولون بينهما فالرئيس روحاني مثلا محسوب على رافسنجاني ورئيس البرلمان على خامنئي، ووو الخ من مواقع المسؤولية والنفوذ لنجد رافسنجاني منذ أزمة تزوير الانتخابات لصالح أحمدي نجاد رغم دلائل أكيدة على فوز حسين موسوي يتخذ مواقف علنية ضد خامنئي، منها المضي قدما بإنجاز الاتفاق النووي رغما عن خامنئي مع توجهات لا تريد هذا التورط في المشاكل مع العالم العربي ورغبة بالتفاهم مع السعودية، فنستذكر مرحلة من التفاهم بين البلدين أواخر عهد رئاسة رافسنجاني في فترة (فهد – عبدالله) أواخر التسعينات وهو ما انتهى عقب الاحتلال الأميركي للعراق وتسليمه للإدارة الإيرانية النافذة.
‏المهم أن رافسنجاني صار الآن (آية الله العظمى) ومؤهل لخلافة خامنئي الذي يشكو المرض ويحتمل أن يغيب في أي لحظة الأمر الذي يخلق حالا من الانقسام في رأس النظام، ويتسبب بمماحكات كان منها ما تم التعبير عنه بوسائط التواصل الاجتماعي والصحف المحسوبة على هذا الطرف أو ذاك، فرافسنجاني ينتقد التجارب الصاروخية التي تعد انتهاكا للاتفاق النووي ويكتب بأن هذا العصر هو عصر الحوار وليس الصواريخ!..
‏فيرد عليه خامنئي في خطابه الأخير بأن ذلك إذا كان قيل حقا فهذا نوع من الجهل فإن لم يكن فهذه خيانة!..
‏بالطبع لن تنشب الحرب بين الجانبين لكن الأمر بحساب موازين القوى داخل النظام ليس مجرد فلتات لسان!..
‏والحقيقة أن هناك حروب استنزاف تخوضها إيران وهناك أزمة اقتصادية طاحنة تواكب تحولات ضخمة أهمها نهوض دور للجانب العربي بقيادة السعودية، ووراء السطح الذي يوحي بوحدة حال لرجالات النظام هناك جبل ضخم في الأسفل يتكدس من تباين المواقف والخلافات لمواجهة هذا النهوض وهل سيتم هذا بمزيد من المواجهات والاستنزاف أم بلغة الحوار و.. التنازلات.