عفو عند العرب وغدر عند الأعاجم

مقالات

عفو عند العرب وغدر عند الأعاجم
يوسف علاونة:
مما يذكر أو تأتي عليه السير قصة لعبدالرحمن الداخل الأموي مع بدر مولاه، وكيف غدر به مولاه هذا، ولما اكتشف غدره لم يقتله، بل نفاه في قلعة فيها خدم وحشم في شمال الأندلس!.
‏وقد كان بلغ (الداخل) أن بدرا وهو في سجنه أو منفاه: من فتح البلاد للداخل غيري ولولاي لما كانت له إمراة!.. فقال عبدالرحمن قصيدة من عيون الشعر جاء فيها:
‏لا يكف ممتن علينا قائل
‏لولاي ما ملك الأنام الداخل
‏سعدي وعزمي والمهند والقنا
‏ومقادر بلغت وحال حائل
‏إن الملوك مع الزمان كواكب
‏نجم يطالعنا ونجم آفل
‏والحزم كل الحزم ألا يغفلوا
‏أيروم تدبير البرية غافل
‏ويقول قوم سعده لا عقله
‏خير السعادة ما حماها العاقل
أبني أمية قد جبرنا صدعكم
‏بالعرب رغما والسعود قبائل
‏ما دام من نسلي إمام قائم
‏فالملك فيكم ثابت متواصل.
ثم عفى الداخل بعد حين عن مولاه هذا، الذي صلح حاله بعدها وندم على فعلته!.
وقد غدر أحد رجال المنصور ابن أبي عامر به فغضب عليه وأودعه السجن وكان صديقه في تجارته قبل أن يصحب نائب الخليفة الأموي، وكان من عادته بعد صلاة العيد أن يزور أم صديقه في بيتها، فلما جاء العيد وهو خارج للصلاة أمر أن يسرج حصان آخر مع حصانه وذهب لغير طريق المسجد، إلى السجن، ثم أخرج صديقه وأمر له بخلعة أعدها وألبسها إياه وأركبه على الفرس عن يمينه وصليا العيد ثم أوصله إلى بيته، فقال صديقه ماحملك على هذا ابن أبي عامر!؟ قال خجلت أن أزور بيتك على عادتي وأنت في السجن!.
ثم التفت لأبناء صديقه يحكي ما كان بينهما من أخوة وصحبة وود.
ولعلي أذكر في هذا المقام فعلة مماثلة فعلها الملك الحسين بن طلال مع أحد معارضيه وهو المهندس ليث شبيلات، فقد ذهب إليه يوم العيد في السجن وطلب زيارته، فلما جاؤوه به قال له ارتد هدومك فإني أخجل أن أزور أمك لأعايدها وأنت لست في البيت، علما أن الملك وليث هذا كانت تجمعهما صداقة صبا، وعلما أن ليث كان تعرض للسجن لأذى لفظي وجهه بلسانه إلى الملك ومس فيه مقامه!.
وهذه كلها ومثلها كثير من طباع للعرب لا يفقهها الفرس ولا يعرفها الترك.
‏والعرب عجيبون في ودهم وفي صحبتهم، وهم قوم لا يغدرون بصاحب، ولا يبالغون في تبكيت ولا يردون عائدا ويقبلون ويعفون إذا قدروا ويفون بالود حتى بعد الفراق والعداء.
وهذا بخلاف ما فعله كسرى مع النعمان بن المنذر، مع أن النعمان كان طوع لكسرى العرب ورد شرهم عنه، ولولاه لكان العرب دمروا ملك كسرى وقد فعلت العرب بالملوك ما هو كثير من الإذلال والمهانة!.
لكن العلج كسرى لما غضب على النعمان قتله شر قتلة ولم يذكر الود القديم.
وقد غضب السلطان (التركي) سليمان القانوني على إبراهيم الإفرنجي مولاه الذي كان الصدر الأعظم وكان أصدق صديق له، وهو الذي قاد معركة موهاج، وكان رفض تولي منصب الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) فألح عليه سليمان فقال أقبل بشرط أن تؤمنني ولا تقتلني لأنه كان كغيره من الناس يعرف غدر بني عثمان أجداد إردوغان!.
فكتب سليمان له كتاب أمان، وأغلظ له الأيمان بأنه لن يعاقبه بالقتل مهما فعل!.
فلما كثرت الوشايات في سلطنة الوشايات العثمانية، غضب عليه سليمان وقرر قتله، لكنه تذكر العهد الذي بينهما، فاحتال حيلة عجيبة وهي أن ينفذ الأمر بعد أن ينام هو وضحيته إبراهيم!.
وحتى يأمن إبراهيم منه وينجح بالمكر به جعله جليسه على إفطار رمضان أياما حتى يطمئن!.. وفي الليلة المنشودة أمره أن ينام حيث كان ينام أيام كان مرافق السلطان الخاص، فدخل الجلادون عليه (إبراهيم) وخنقوه حتى الموت، وهكذا لم يف له سليمان بذمة أو بعهد، ولم يكتف بعزله بل قتله أبشع قتلة!.
ولما عاد رسول عمر من قيصر وكان قد مر بجبلة بن الأيهم ذكر حسان فقال: إن كان ميتا فأذبح هذه الإبل على قبرة وإن وجدته حيا فادفعها إليه، فتعجب أهل المدينة من وفاء الغساسنة مع حسان رضي الله عنه
‏فأجاب حسان رضي الله عنه على البديهة شعرا:
إن ابن جفنة من بقية معشر
‏لم يغذهم آباؤهم باللوم
‏وأتيته يوما فقرب مجلسي
‏وسقى براحته من الخرطوم
‏لم ينسني بالشام إذ هو ربها
‏كلا ولا متنصرا بالروم
‏يعطي الجزيل ولا يراه عنده
‏إلا كبعض عطية المذموم
لذلك ومثله لا يحكم الفرس أو الترك إلا ويحيلون الأرض العامرة خرابا، ويزيدون الأرض المبتلاة خرابا على خرابها بسبب حقدهم ودناءة نفوسهم، ولا يحكم العرب الأرض الجرداء إلا وأحالوها عمارا وزهوا وحدائق غناء، وملأوها بالود والوفاء والشجاعة والكرم.
أنظر إلى السعودية رمل وصوان صلد أصم أحالها آل سعود إلى جنائن مبغددة.
وأنظر إلى الإمارات رمل وملح وهواء لافح بالرطوبة وامتدادات نظر يملؤها الحر جعلها آل نهيان جنانا خضراء، ومدنا عامرة وحياة تتمناها أعتى الحضارات.
@yousef_alwnah