نظرة واقعية ل (مجلس الأمة) الكويتي

مقالات

نظرة واقعية ل (مجلس الأمة) الكويتي

‏يوسف علاونة

‏•••

‏مجلس الأمة الكويتي تجربة برلمانية رائدة، جاءت ضمن الرؤى المبكرة للكيانات الوطنية العربية، والتي حاولت استلهام (المشاركة الشعبية) على طريقة (الديمقراطية الغربية) بمفهومها (العالمي) الذي يقلص من دور (النظام)، أو الحاكم الفرد.

‏في تلك الفترة كانت (الدولة الوطنية) العربية، خرجت لتوها من حقبة استعمارية أو انتدابية، حاملة بعضا من تأثيراتها، بعد حقبة مريرة سوداء من العصور الوسطى التي شكلتها الحالة (العصملية) المستبدة، التي تكرس كل السلطة ل (السلطان) دون أن نغفل محاولات التفلت منها، بأحوال عدة كحال الكويت.

‏وفي هذا السياق جرى صوغ (الدستور) أو النظام الأساسي، بما يتعدى التأثيرات الظرفية المحلية، فجعل المواطنة مطلقة المساواة وبأساس فردي، ليثبت مع مرور الوقت أن هذه المنطقة من العالم تقوم على جدران صلبة من المكونات الطائفية والقبلية، لا يمكن القفز عليها، ولا تجاوزها.

‏في البداية كان الناس سعداء للغاية بالتجربة، ولم تحل الحال الطائفية والقبلية وحتى العرقية، من جعل (متعلم) يحمل شهادة الطب مثل الدكتور أحمد الخطيب، أن يكون (زعيما) للمعارضة الكويتية التي تحاول إجراء القطع الناعم مثل سكين الزبدة من صلاحيات و(سطوة) الحاكم، لصالح الشعب، وكان الأمر ‏ظريفا بل مسليا، والناس تتشفى بقهر (النظام) بفوز الدكتور الخطيب (الأسمر)، وعبر تلفزيون الدولة (النظام) نفسه، الذي تصدح فيه مطربة بأغنية شهيرة: “عالأسمر، يا قالوا، بجماله، ودلاله، ولما يطل الأسمر، الأبيض يخبي حاله”!.

‏ومسألة اللون غير هينة في المجتمع العربي، وفي مرة كان أحد النواب يعاير الدكتور الخطيب بلونه، فما كان منه إلا ووقف ليرد عليه بأن لونه هو نفس لون سمو رئيس الوزراء، ليقف النائب معتذرا وقد بلغ فيه الإحراج حد تمني لو أن الأرض تبتلعه!.

‏مثل هذا الكلام كثير، على أن القصد هو أن الكويت عاشت حقبة ثرية من عدم معرفة الناس بمن يؤيدون أو ينحازون إليه، أهو: ‏قبلي، أو شيعي، أو سني، ومثلما كان المسيحي الشيوعي الكركي عيسى مدانات يفوز بمقعده البرلماني في دائرة القدس، كان المجتمع الكويتي بعيدا عن كل فرز للجدران التقليدية الصلبة، ومن دون أن يجري تداول أن هذه القبيلة ممثلة أو هذه الطائفة حصلت على مقاعد أكثر أو أقل.

‏لكن هذا الواقع الجميل تبخر مع تغير جذري شهدته المنطقة بعد قيام دولة طائفية مطلقة في إيران، وتلى ذلك حرب عبثية أكلت الأخضر واليابس وخلقت هواجس لم تكن محسوبة من قبل، انجم عنها غزو أشد عبثية للكويت نفسها، ما حطم كليا الثقة بالدولة (الوطنية) وقدرتها على الصمود، ثم أعقب ذلك ‏احتلال للعراق نفسه ومواجهة عالمية مستمرة مع النظام الطائفي الإيراني، وتحدي مستجد موازي لأكبر دول المنطقة وهي المملكة العربية السعودية، الأمر الذي عزز من حال الانقسام وأوجد شهية بل شهوة نحو الانتماء الضيق، كمنطلق للعمل العام كسوار حماية للناشطين من أهل السياسة.

‏في يوم زارني في مكتبي في الصحيفة وجه فاضل من الوجوه الشيعية أكن له احتراما وتقديرا كبيرين.

‏كان الرجل محتجا على خبر نشرناه عن عدد الأصوات التي فاز فيها بالانتخابات، باعتباره أنه انسحب من هذه الانتخابات!.

‏وتفهمت استياء الرجل وطلبت منه كتابة التوضيح الذي يريد لننشره في الصفحة ‏التي يحدد، ثم خلال ذلك سألته عن سبب انسحابه من الترشح فقال وبكل بساطة: هذه مرحلة مجانين طائفيين، لن يجد فيها العقلاء موطئ قدم!.

‏وكان الرجل صادقا فعلا، فليس أصعب من التعقل في بيئة يرتفع فيها صوت المجانين، بين شيعي يؤيد ولاية الفقيه في بلد عدد سكانه مليون ونصف المليون، ومساحته ‏أقل من 20 ألف كيلو متر مربع، (وإخواني) مثله يريد استعادة دولة الخلافة، ينسى هموم بلده لصالح صراع تقوده تركية، وتتصدى له السعودية ومصر، وتقف فيه باكستان وإندونيسيا (500 مليون نسمة) على الحياد!.

‏ودعك من المعتاد في نشاط عام لا يرى فيه المشارك أبعد من أرنبه أنفه أو مصلحة ابن عمه!.

‏بعد ذلك وبما هو عالمي دهم البرلمانات -كل البرلمانات- وهن شديد انتقلت فيه السلطة والقرار والتأثير إلى منصات أخرى، وفرتها (السوشال ميديا)، والانفتاح مع سهولة التعبير عن الرأي والقدرة على توصيله لصاحب القرار فضلا عن تطور مفهوم (الحوكمة) حيث النظام لم يعد في حاجة للاسترشاد بما ‏يقوله ويريده النواب تحت قبة مجلسهم.

‏هذا يفسر معدلات الإقبال على الانتخابات والحماس لها، والنظرة النقدية التي تجتاحها، وهذا يمثل دعوة جدية لإعادة النظر بما يجري عموما في مجالات الخدمة العامة.